“حين يتعلق الأمر بالوطن لا يوجد كاتب كبير وشاعر أكبر فوق التطبيع وكاتب صغير يجب قطع قدمه التي انزلقت للتطبيع. كان محمود درويش شاعراً كبيراً جداً، وكان تطبيعه أكبر.” عادل سمارة
محمود درويش .. شاعر المقاومة والثورة، شاعر فلسطين، شاعر القضية …
هاجر درويش فلسطين طفلاً وعاد متسللاً في مراهقته؛ ودخل وخرج من سجون العدو الصهيوني عدة مرات بسبب قراءة قصائده أو تنقله داخل بلاده بلا تصريح أو لأنه، ببساطة، تأخر عن إثبات وجوده لدى أقرب مركز شرطة مرتين في اليوم.
صرخ درويش يوماً ما في وجه موظف اسرائيلي عند سؤاله عن جنسيته “سجّل أنا عربي” وأصبحت صرخته قصيدة يحفظها ويرددها العرب باعتزاز:
سجل
أنا عربي
ورقم بطاقتي خمسون ألف
وأطفالي ثمانية
وتاسعهم سيأتي بعد صيف
فهل تغضب
لكن درويش كره قصيدته هذه لاحقاً، وكره طلب الجمهور الدائم له بقراءتها، كما يقول صديقه سميح القاسم. كبر درويش وتخطّى لاحقاً الوطن والقومية إلى” الإنسانية” جمعاء، والتي شملت “الأخ العبري” بالطبع. كما أصبح يرفض أن يلقّب بشاعر المقاومة والثورة، ربّما لأنه يدرك أنه لم يعد كذلك؟
في الفيلم الوثائقي، الأرض تورث كاللغة، يقول درويش: “الحاكم العسكري الذي عاقبني على كتابتي الشعرية كان يهودياً، والمعلمة التي علمتني اللغة العبرية وفتحت موهبتي على حب الأدب كانت يهودية، مدرس اللغة الإنجليزية كان يهودياً، القاضية التي حاكمتني لأول مرة كانت يهودية، عشيقتي الأولى كانت يهودية، جاري كان يهودياً، رفاقي في العمل السياسي كانوا يهوداً. إذن لم أنظر منذ البداية إلى اليهود كشيء واحد مدموغ بنظرة نمطية، وبالتالي إمكانية التعايش متوفرة لدي نفسياً وثقافياً لكن المشكلة الأساسية هي المشكلة السياسية.”
والتعايش ليس المشكلة فعلاً لكن الحل السياسي لكيفية التعايش هو المشكلة.
بينما كان الحل لدى الفلسطينيين والعرب هو تحرير كامل الأرض، أعتقد درويش بأنه آن لنا أن “نكبّر عقولنا” ونرضى بخمسها. “لقد ارتضينا لأنفسنا العيش في خمس فلسطين التاريخية وارتضينا لكم دولة في أربعة أخماسها…” هكذا خاطب درويش، بالإضافة إلى أربعة وعشرون مثقفاً فلسطينياً، المثقفين الإسرائيليين نيابة عن الشعب الفلسطيني في ٢٠٠٢.
كما صرّح درويش لجريدة هارتس في ٢٠٠٧ بالتالي: “أنا أتهم الجانب الإسرائيلي لعدم إبداء استعداده لإنهاء الاحتلال في قطاع غزة والضفة الغربية. الشعب الفلسطيني لا يسعى لتحرير فلسطين. الفلسطينيون يريدون أن يعيشوا حياة طبيعية على ٢٢٪ مما يظنونه وطنهم. لقد اقترح الفلسطينيون أن يُوضّح الفرق بين الوطن والدولة، كما أنهم فهموا التطور التاريخي الذي أدّى إلى الوضع الحاضر حيث يعيش شعبان على أرض واحدة وفي دولة واحدة. بالرغم من جهوزيتهم هذه، لم يتبقى شيء للحديث عنه.”
“كان يجب أن يتحول الوطن إلى مكان ليفقد القداسة وليسمح بتقاسمه مع العدو، بل التنازل عنه للعدو تحت تسميات منها الحداثة وما بعدها ومنها تجاوز التخشب ومنها فهم الظروف الموضوعية وموازين القوى …الخ وأخيراً “الوطن الرمزي”.” يكتب عادل سمارة.
أي أن محمود درويش لم يكتفي بكونه مطبّعاً، بل أعطى نفسه الحقّ ليتكلم نيابة عن الشعب الفلسطيني زاعماً أن آراءه آراءهم ووزع التصريحات وكتب القصائد بناءً على ذلك. ولو أن الشعب الفلسطيني ارتضى خمس فلسطين فعلاً، فلما ما زال يقاوم؟
زيارة محمود درويش لحيفا هي ما ابتدأ خطاب اتهام درويش بالتطبيع بهذه الصراحة والجرأة. فلمدة طويلة كان الكتّاب يخافون الإرهاب الفكري الذي سيمارس عليهم.
زار درويش حيفا في ٢٠٠٧ لإقامة أمسية شعرية في قاعة روتشيلد برعاية حزبه السابق: الحركة الديمقراطية الإسرائيلية.
غضب محبوه من الدعوات لإلغاء الزيارة واتهامات التطبيع واحتجّوا بأنها عودة شاعر لأرضه. ومن المنطقي أن نقتنع بوجهة نظر هذا الطرف طبعاً، لولا أن درويش قال في حواره مع جريدة هارتس قبيل الأمسية “لا أريد إخافة أحد .. هذه ليست عودة”!
“يحق لنا ان نسأل محمود درويش الشاعر الكبير كيف يشعر عند دخوله الى اسرائيل عبر تصريح من وزارة باراك القاتل والسفاح، باراك اكتوبر وال 13 شهيداً من عرب الداخل” -ياسر أسمر
“السجال الجوهري حول توصيف زيارة درويش، هل هي “زيارة” أم “عودة”، هل هي “عودة” أما شيء يشبه ما يسمى أحيانا بـ”التطبيع”.” -نائل الطوخي
“فلماذا لا يعود للقاء أهله وجمهوره من عرب الـ ٤٨، حاملاً معه صوت فلسطين، صافياً وعالياً؟ المشكلة في التوقيت، وفي شكل الدعوة، يجيب أصدقاؤنا في «الداخل». إن درويش يدخل اليوم مناطق الـ ٤٨ بإذن عسكري من جيش الاحتلال، فيما آلاف العائلات الفلسطينية الممزقة بين أشلاء الوطن، غير قادرة على لمّ شملها منذ سنوات. ويستغرب آخرون كيف يقبل الشاعر الكبير دعوة جهة سياسية عليها اليوم كثير من المآخذ … درويش فوق الجميع، لماذا يسمح بحشره في هذه الخانة الضيّقة، في «بيت روتشيلد»؟ …” -بيار أبي صعب
والحقيقة أن الأغلبية فقدت البوصلة حينما ظنت أن الزيارة هذه هي محض استثناء في طريق مليء بالنضال.
الحقيقة أن درويش الذي هُجّر صغيراً وعاد لقرية مدمرة وسُجن وعانى الفقر والتضييق قد توقف عن كونه شاعر القضية منذ مدة طويلة؛ والدلالات التسووية كما يدعوها أحمد أشقر قد بدأت تظهر في شعره منذ بداية السبعينات تقريباً.
تحول العدو القاتل إلى الآخر الغريب، وتحولت الضحيّة إلى صورة أخرى للمسيح، تُظلم فتغفر وتدير الخدّ الآخر، وتحول الوطن إلى تاريخ، وأصبح الواقع هو شعب لا يمانع أن يعيش على خمس أرضه لأنه طيب ومسالم ويحب الآخر.
شارك درويش في مؤتمرات مع صهاينة وحاول دائماً أن يتحكم السياسي بالشاعر فيه، فإن غضب الشاعر قام السياسي ليصلح غلطته (وهذا ما حدث بعد قصيدته عابرون في كلام عابر).
وفي ٢٠٠٧، رفض زيارة غزّة طالما حماس تحكمها بينما لم يمانع زيارة حيفا واسرائيل تحكمها.
كما يذكر أحمد أشقر في كتابه “التوراتيات في شعر محمود درويش: من المقاومة إلى التسوية” أن درويش قد وقّع في ٢٠٠١ بياناً يطالب الحكومة اللبنانية بمنع مؤتمر المراجعة التاريخية للهولوكوست بعد فترة وجيزة من توقيعه عريضة تطالب السلطة المصرية بإطلاق سراح سعدالدين إبراهيم المتهم بالتجسس لأمريكا وحلف الناتو بحجّة “الدفاع عن حرية الرأي”!
“بهذا المعنى لا يمكن عدّ محمود درويش شاعر القضية إذا كانت الأخيرة تعني تحرير فلسطين، ولا شاعر الثورة إذا كانت فعلاً جماعياً مستقبلياً، ولا شاعر فلسطين إذا كنا نقصد ال ٢٧٠٠٩ كم٢” -بشار إبراهيم
ولأن المتنبي، البوق الحكومي بمعايير اليوم، لا يزال مالئ الدنيا وشاغل الناس، ولأنه يحلو لي أن أقرأ عن الإسلام بعين الصادق النيهوم، لا يزال يحلو لي أن أقرأ شعر درويش أيضاً.