كنت خائفة من الاعتراف لنفسي حتى بأنهما يودعاننا، ثم رأيت صديقة تغرّد بذلك. كانا يعلمان مصيرهما، مسلمان وراضيان.
في آخر لحظاتهما معنا، خارج ذلك السجن وداخل السجن الأكبر، كانا -كمغاور غيڤارا- مستعدان لكل شيء “لتحويل المثل الأعلى إلى حقيقة”. كانا يصنعان من نفسيهما مثالاً في كل لحظة. الوقت يداهمهما فيحاولان أن يكتبا لنا أكثر، يوعياننا، يملآننا بقيم الحرية والديمقراطية والدفاع عن الحق أمام الإمام الجائر. يُمنعان من نقل مواجهات التحقيق، فينقلانها على أية حال ويواجهان عواقب ذلك لأننا يجب أن نتعلم من تجربتهما.
عند التحقيق لم يتخذا نفس ردة الفعل ليكون لنا الخيار من بعدهما. قرر عبدالله الحامد أن يقر بكل ما قال وكتب ووقع ليعلمنا أن نتحمل مسؤولية أفعالنا وأقوالنا، وقرر محمد القحطاني أن يرفض الجواب على أي سؤال ينتهك حقه في حرية التعبير لكي لا ينتهكوا حقوقنا. وعندما واجهوه، ليخيفوه، بتقرير أعدّه “السافاك السعودي” -كما سمّاهم- بعد تنصتهم على مكالماته ونقاشاته، جاوبهم ب”ألا تخجلون؟”
نكتب غالباً عن حسم لنرضي ذواتنا، لنخفف بعضاً من تأنيب الضمير، للاعتذار عن ضعفنا. لا أكتب اليوم لأفعل ذلك. لا أتوقع أننا خذلناهم كما يقول البعض. قال حبيبنا أبو بلال “من السجن تشعل الشموع”. كان يعلم إذاً أننا لم نخرج من الظلمة إلى النور تماماً. أننا ما زلنا في الطريق ويجب عليهم أن يكملوا إنارتها لنا. ليس علينا أن نتوقع التغيير سريعاً:
من رام أن يشفى العضال بجرعة
من فجأة خلى الصحيح عليلا
ما نائم مذ ألف عام قائما
إلا بأجراس ترن طويلا
ما ألف ميل خطوة في ساعة
بل رحلة تمتد ميلا ميلا
كان يوم الحكم عليهما غريباً، لا أدري كيف يمكن أن أصفه غير ذلك. كنا نخاف وننكر، لا، لن يمسوا الحامد والقحطاني. هم أذكى من أن يفعلوها.
وفعلوها!
حكموهما بعقد من الزمن، وانتظروا ردة فعلنا. كتبنا، غضبنا، البعض بكى، والبعض قرر بأنه قد حاول وفشل فاستسلم وانسحب تماماً.
قرأت عدة مرات وبصيغ مختلفة أن الشعوب العربية بعد الربيع العربي ليست هي الشعوب العربية قبله، وأنا أجزم أن شعبنا بعد حسم ليس هو الشعب قبلها. وعلى حبنا لهم، لم نعد نتبعهم وإنما نتبع المشروع والفكرة، فحسم فكرة، والأفكار لا تموت كما طمئننا حساب الجمعية يوم الحكم.
لكن لا يمكننا إنكار أن الحكم عليهما أعادنا خطوات إلى الوراء. لقد رفعا السقف بشكل لا يمكن لغيرهما أن يضاهيه. كان التغيير ممكناً وقريباً حتى سُجنا، كان ممكناً لأنهما يقودانه ولأننا كنا سنتبعهما اقتناعاً لا خضوعاً.
منارتنا أنتِ يا حسم، وجعنا أنتِ أيضاً.
بعد أربعة أو خمسة أيام من اعتقالهما، رأيت تغريدة تقول:
“صديق لي، ليس له في الحقوق لا ناقة ولا جمل، اتصل يسأل عن حسم. قلت له من أين سمعت بكل هذا؟ قال الشباب في جامعة بوسطن كلهم يتحدثون عنها. شمعة.” أرفقتها لأبو بلال بمقولته “من السجن تشعل الشموع” وبعد دقائق رأيته يعيد تغريدها. لوهلة، كاد قلبي أن يقف، خرج؟ عاد لنا؟ لم أفكر بمنطقية، كان قلبي يفكر، فرحت. خاب أملي. كان أبناؤه من يدير حسابه. مر على هذا الموقف أربعة أشهر، ما أزال أشعر بتلك الخيبة.
يقول صديق أن الحكومة تنتصر لأنها تصعّد ونحن نكتفي بالاحتجاج كتابة، لكنني لا أوافقه. الحكومة تصعّد بالنيابة عنا. تعتقل عشرات الآلاف لسنين، بلا تهم، بلا محاكمات، بلا عناية طبية، بلا زيارات واتصالات أحياناً. الشعب فقير، يعاني انعدام السكن و الغلاء والبطالة. تعاني النساء من البطرياركية ومن عدم الاعتراف بهن كمواطنات. يعاني الشيعة من تخوينهم المستمر والتمييز ضدهم. الحكومة تصعّد، الحكومة تدفعنا دفعاً لمواجهتها مهما حاولنا اجتناب ذلك.
قبل أيام، نشر بيان من الملك وولي عهده يندد بحملة قمع/تصعيد جديدة. باركت لنا العائلة الحاكمة برمضان ولم تنسى أن تمزج ذلك بالتخويف والتهديد والوعيد. حملة القمع ستطال القلة القليلة الباقية من النشطاء والحقوقيين خارج السجن، ثم ستمتد، ربما تطالني أو أحد أصدقائي. ثم ماذا؟ مجدداً أعيد: حسم فكرة، والأفكار لا تعتقل ولا تموت. القمع فعل له ردة فعل موازية في القوة ومضادة في الاتجاه. كنت يا أبو بلال قد أخبرت حمّاد العمر في إحدى جلسات محاكمتك أن النشطاء كالزرع، ينبتون كل يوم. وها هم ينبتون فعلاً.
“حوكم الحامد والقحطاني وعوقبا، هذا ليس مؤشرًا كافيًا لتحديد المنتصر. هما يعلمان أنهما انتصرا.. نحن نعلم ذلك.. السجان أيضًا يعلم ذلك.”
كيف نعد سجنهم انتصاراً؟
يجاوب عبدالله العودة في مقالته (كيف كسب الإصلاح جولته: محاكمة حسم نموذجاً):
“نجحت “حسم” والإصلاحيون الآخرون وكسبوا الجولة حين لم تعد “نخبة” تدير مجلسها الخاص بل قضية عامة..وحينما ارتبطت مشاغلها بمشاغل الناس ووعيهم الفاعل، ونجحت حين تحدثت لغة الناس في موضوع المعتقلين وتبنت قضيتهم، وقدمت جهداً مهماً في محاولة رصد الانتهاكات الحقوقية والخروقات الإنسانية والنظامية التي تمارسها السلطة التنفيذية عبر سوء استغلال السلطة وممارسة الاعتقال التعسفي وحرمان المعتقلين من حق المحاكمة التي تتحقق فيها شروط العدالة والنزاهة والعلنية.
وأخيراً.. الإصلاح يكسب جولته دائماً حينما يدافع عن كل الناس ويتحدث لغة الشعب ويتبنى قضاياه.. ولذلك سأصفق لهذا النضال الذي نجح في أن لايكون نخبوياً.. ونجح في أن يقدم رصيداً للحراك الحقوقي عبر الضغط باتجاه المحاكمات العلنية..ثم الضغط باتجاه استقلال القضاء وتوفير كل الشروط الضرورية للنزاهة والمحاكمة العادلة، وفي ربط مطالب دولة الحقوق والمؤسسات والمشاركة الشعبية.. بموضوعات الفساد المالي والإداري والسكن والبطالة وغيرها.
ولأجل كل هذا..أعتقد أن مطالب الإصلاح السياسي والمدني (وحسم هنا نموذجاً) كسبت العنصر الأهم في الموضوع وهو الناس وقضاياهم.. وحينما يتبنى الناس مطالب الإصلاح فإن القضية كسبت ملفها الأهم وهم: الناس، وهذا مايفعله الإصلاحيون.”
“سأثقب جدارا، سأشهر حرفًا، سأشتم الحكومة، سنثبت أن وراء الشمس، هو أمام الضوء والحريّة، وأن الذين وراء؛ حمقى فرطوا بالبوصلة.” تقول ريم الفضلي.
أن يخوفونا مما وراء الشمس أو النسخة التي صنعها الإنسان من الجحيم كان غايتهم، أن يجعلوا منكما عبرة لنا. “عقد كامل ستقضونه في الجحيم إن فعلتم ما فعلاه، عقد كامل ستضيع خلف قضبان الحاير والطرفية وعليشة.” لماذا أصبح الحاير والطرفية وعليشة أقل هيبة إذاً؟ ألأنهم حيث يذهب الشرفاء؟ وراء الشمس، أمام الضوء والحرية، هو ما نخاف ونتمنى. مشاعر مختلطة تراودنا تجاهه.
سُجن محمد القحطاني، أحد أهم مئة مفكر عالمي، لأنه حلم بمستقبل أفضل لأطفاله الخمسة. لأنه أراد لليلى أن تنتخب رئيس وزراء بلادها يوماً ما. وسُجن عبدالله الحامد سبع مرات دفاعاً عن فكرة آمن بها فحارب لأجلها ولسان حاله يردد: “يرونه بعيداً ونراه قريباً”
سُجنوا لمطالبتهم بتحويل المملكة إلى مملكة دستورية، وتحديد صلاحيات ومصاريف العائلة الحاكمة، وانتخاب رئيس وزراء وبرلمان، ومحاكمة المعتقلين تعسفياً في محاكمات عادلة أو إطلاق سراحهم، وإنهاء كل أنواع الفساد، ومحاسبة المسؤولين عن كارثة جدة وقتلاها، وإنهاء القمع، وإطلاق الحريات … مطالبهم هي مطالبنا ومشروعهم مشروعنا وسنكمل الدرب غير واهمين ولا غافلين عن عقوبات ما نفعل، فمن لا يريد المخاطرة فليتركنا الآن.
والمجد في الدنيا وفي الأخرى معا
من دون تضحية الفتى مانيلا
إن لم تساقوا للسجون قوافلا
لن تقنعوا الدنيا بقول قيلا
إن لم تسيروا للسجون مواكبا
لن يصبح الحلم العصي ذلولا
إن لم تسيروا للسجون كتائباً
لن تمنعوا من قتلنا (قابيلا)
إن لم تسيروا للسجون قوافلا
لن يستجاب لكم دعاء قيلا
ما وفق الرحمن إلا من سعى
ودعا وناضل رافعا قنديلا
للأحرار داخل السجون … أنتم هنا بيننا ثورة عارمة، ثورة لم تحدث بعد، ثورة حتمية الحدوث. سلام عليكم يوم ولدتم ويوم تبعثون أحياء في الوطن الذي حلمنا به معاً … سلام عليكم ولتحل اللعنات على من طغى وتجبّر.
إلى الأحرار الذين لم يدخلوا السجون بعد … اقرأوا قصيدة (رحلة دون كيشوت الأخيرة) وتذكروا الحامد والقحطاني. اقتلوا الخوف، اخلعوا الوهم، تهيأوا للضرب:
سيقولون: الظلم يعمِّرُ هذا العالم ، وهو به صار اللونْ
أنت بأحلامك لن تقوى أن تهدم أسس الكونْ
ماذا أفعل؟
مازلت أرى المنفى أن أحيا وسط نفايات المُثُل ، وليس المنفى أن أرحلْ
مازلت أظن الانسان إذا واجه ما يخجلُ يخجلْ
وإذا واجه ما يحزن يحزن أو يبكي
وإذا واجه حُسْناً يعشق أو يتأملْ
مازال القلب يراوغ عن أسئلتي، يخفق أجوبةً، ما زال القلب هو الهادي
ما زالت “لا” في كلمات اللغة هي الأجمل
ما زلت جموحاً لا أخشى شيئاً خارج هذا الجسد المتهاوي
لا أخشى غير الخوف (سنقتله قبل البدء برحلتنا)
لا أخشى غير الأمل الخادع (بخلعه قبل البدء برحلتنا)
هات جوادي
ارفعني كي أعتلي السرجَ وسلّمني الدربْ
زوادتنا فارغةٌ من أي طعام أو شُربْ
إن بادرك اليأس من الرحلة ودّعني
إن كنت ظللت كما كنت المؤمن بالسعي وبالهدف وليس المؤمن بي
إن فاض القلب بحبِّ المجنون الكهلِ العاجزِ فاتبعني عن قُرْبْ
وتهيَّأ للضرب
وتذكّر دوماً أني لم أقطع وعداً بالنصرِ،
أنا لم أضمن إلا استمرار الحربْ